اضطر رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إلى اختصار زيارته لألمانيا التي كانت مقررة لمدة يومين، وذلك بعد زيارته إيطاليا للدفع فيما يبدو بملف نقل السفارات إلى القدس، وكذلك للتمهيد لتصدير الغاز الإسرائيلي لأوروبا، لكن ثقل الملف الداخلي أرهق كاهل نتنياهو، حيث اضطرت برلين لاستقباله بإجراءات أمنية غير عادية، أما اختصار الزيارة فقد تقرر بعد إجرائه مشاورات مع وزير دفاعه يوآف غالانت، أي لأسباب أمنية، لم تفصح عنها المصادر الإسرائيلية، لكن من المرجح أن تكون لها علاقة بالتقارير الأمنية التي تنبئ إسرائيل بوجود نوايا لدى المقاومين الفلسطينيين لتنفيذ عمليات ضد أهداف إسرائيلية، كذلك لاستمرار حالة الاحتجاج الشعبي ضد نتنياهو وحكومته، وذلك منذ أن تولت حكومته السادسة مقاليد السلطة، مطلع العام الحالي.
والحقيقة أن إسرائيل منذ العام 2019، لم تشهد استقراراً داخلياً، تمثل في ذهابها إلى أربع دورات انتخابية، بدلاً من واحدة، وشيئاً فشيئاً اتضح بأن المشكلة تكمن في شخص بنيامين نتنياهو، الرجل الذي دخل السياسة الإسرائيلية من أوسع أبوابها عام 1996، كرئيس للوزراء بعد اغتيال اسحق رابين، وفوزه المفاجئ على شمعون بيريس في أول انتخابات مباشرة تجري على مقعد رئيس الحكومة، حيث تمتع حينها رئيس الحكومة بصلاحيات رئيس الدولة المنتخب مباشرة من الشعب، وفق النظام الرئاسي وليس النظام البرلماني المعمول به في إسرائيل منذ نشأتها.
ورغم أنه هُزم من قبل المرشح من حزب العمل أيهود باراك، ولم يعد يقود الليكود، حيث ظن العديد أنه قد فقد مستقبله السياسي، خاصة وأن من ورّثه الليكود، وهزم حزب العمل لاحقاً سنة 2001 كان «ملك إسرائيل» اريئيل شارون، الذي بدوره اضطر لمغادره الليكود، وإنشاء الحزب الوسطي «كاديما»، إلا أنه عاد بقوة عام 2009، ليعيد اليمين للحكم، ويرأس أربع حكومات متتالية، حيث ما زالت عودته مستمرة حتى اللحظة، رغم الفاصل الذي وقع قبل عامين واستمر عاماً ونصف العام، تخللته ما سُميت بالحكومة البديلة، والتي تشكلت من أطياف واسعة من الأحزاب الإسرائيلية، ومع ذلك رأسها في معظم ولايتها اليميني نفتالي بينيت، قبل أن يتم حل الكنيست الرابع والعشرين، ويتولى يائير لابيد رئاسة الوزراء لبضعة أشهر هي الفترة الانتقالية.
ومنذ عام 2019، ودائرة رفض شخص نتنياهو تتسع، حتى شملت يمينيين كانوا حلفاءه معظم وقت رئاسته للحكومات السابقة، ونخص هنا بالذكر كلاً من أفيغدور ليبرمان، شريكه السابق منذ عام 2009، بحزبه إسرائيل بيتنا، ثم نفتالي بينيت الذي كان يتزعم البيت اليهودي، وكان شريكاً لنتنياهو، بل وشغل منصب وزير الدفاع، في حكومة نتنياهو الخامسة، ثم جدعون ساعر الذي كان نافسه على رئاسة الليكود، قبل أن ينشق عن الحزب اليميني ويشكل حزبه الخاص ويشارك به ضمن ائتلاف الحكومة البديلة السابقة.
هؤلاء الثلاثة لم يختلفوا مع الليكود، ولا حتى مع اليمين، في سياساته، باستثناء ليبرمان، الذي عارض نفوذ الأحزاب الدينية ومسعاها لتحويل الدولة إلى دولة دينية، وهو الأمر الذي تكرس في ظل حكومات نتنياهو المتتابعة، وقد ظهر عبر احتجاجات هؤلاء اليمينيين، جلياً وبشكل متواصل قيادة نتنياهو إسرائيل لتعزيز يمينيتها أولاً، ثم تعزيز المحتوى الديني المتشدد لها مع التطرف اليميني السياسي، بحيث وصلت في آخر محطة لها، لتصبح دولةً متطرفة سياسياً، متزمتة دينياً، ومستبدة داخلياً.
وهذه أضلاع مثلث الحكم الذي يقوده حالياً نتنياهو، بالشراكة مع التطرف القومي للصهيونية الدينية، والتزمّت الديني للحريديم، ثم الجنوح نحو الاستبداد الداخلي في الحكم، لتحريره شخصياً مع شريكه زعيم حزب شاس آرييه درعي من تهم الفساد، وهكذا فإن إسرائيل انتقلت إلى حد كبير في ظل قيادة نتنياهو المتواصلة منذ أربعة عشر عاماً، من حقل الغرب الديمقراطي، إلى آفاق الاستبداد في الشرق الأوسط.
ولعل هذا يفسر بشكل ما اهتمام نتنياهو بخطة التطبيع مع الأنظمة الشرق أوسطية دون إحلال السلام مع شعوبها، والتي ترى بأن مفتاح السلام هو في التوصل له أولا مع الجانب الفلسطيني، وفي إنهاء احتلاله للأرض والشعب الفلسطيني ثانياً، ولعل هذا الابتعاد من قبل إسرائيل في ظل نتنياهو عن الحقل الديمقراطي، هو الذي يزيد من الفجوة بين إسرائيل وأوروبا أولاً ثم بين إسرائيل وأميركا ثانياً، بما في ذلك يهود الغرب، الذي باتوا يرون إسرائيل تتحول للدكتاتورية بشكل حثيث، بسبب من تركيبة حكومتها الحالية، التي لم تسقط من السماء على أي حال.
وفي حقيقة الأمر، فإن النخبة السياسية، بعد أن رفع ليبرمان راية الحفاظ على ليبرالية الدولة، في مواجهة تحولها لدولة دينية، حاولت بكل قوة أن تقف في وجه قيادة نتنياهو لإسرائيل، ليس على طريق التطرف السياسي بإغلاق آفاق الحل، ذلك أن معظم مكونات الحكومة البديلة السابقة لم يطالبوا بإعادة التفاوض، أو قالوا بضرورة التوصل لحل مع القيادة الفلسطينية، ولا حتى قالوا بإنهاء الاحتلال، رغم أنهم يدركون بأن استمرار الاحتلال وعدم الانسحاب يضع إسرائيل أمام أحد خيارين أحدهما مستحيل وهو حل الدولة الواحدة، فيما الثاني كارثي فهو يعزلها عن العالم تماماً، وهو دولة الفصل العنصري، إلا أنهم جميعهم اتفقوا أو تجمعوا ضد استمرار نتنياهو رئيساً للحكومة في ظل تهم الفساد الموجهة ضده في المحاكم.
أما نتنياهو فقد امتطى ظهر الليكود، وكان بمثابة جامع قطّاع الطرق من متطرفين ومتزمتين، من عنصريين ومستبدين ومدانين، من أعداء الإنسانية، بحيث بات الائتلاف يخدمه شخصياً، أولاً بالإبقاء على مستقبله السياسي، وثانياً بمنع تعرضه لمصير أيهود اولمرت، رئيس الحكومة اليميني السابق، الذي كان عمدة للقدس، وورث شارون في رئاسة الحكومة، لكنه سجن، وفقد مستقبله السياسي، بل ومكانته كرئيس حكومة سابق.
وكل خصوم نتنياهو من أحزاب وقادة سياسيين من اليسار والعرب، من جنرالات الجيش ومن قادة أحزاب يمينية، لم ينجحوا طوال أربع سنوات مضت سوى بخلق حالة توازن داخلي، أبقت على نتنياهو رئيساً لحكومة تسيير أعمال ما بين أعوام 2019_2021، حتى نجحت بفارق ضئيل في تشكيل الحكومة البديلة، ودفعت ثمن ذلك أن ولّت يمينياً آخر رئاستها، كان نفتالي بينت، أحد تلاميذ نتنياهو، في حين بقي نتنياهو في المشهد السياسي كرئيس للمعارضة، التي ظلت قوية، به ومعه، ونجحت بعد عام ونصف العام فقط، بدفع الحكومة البديلة إلى حل الكنيست، باستخدام المعارضة للتصويت على قرارات هي ضد موقفها اليميني، منها قانون الطوارئ المعمول به في الضفة الغربية، وذلك لتحقيق الهدف السياسي الخاص بها، وهو إسقاط الحكومة، وقد جاءت نتائج انتخابات الكنيست الخامس والعشرين التي جرت مطلع تشرين الثاني من العام الماضي 2022، بمثابة مفاجأة، حيث انتهت حالة التوازن السابقة، ففاز تحالف الليكود مع الحريديم والتطرف اليميني بأغلبية مريحة.
وحيث إن ذلك الفوز قد سمح لحكومة نتنياهو السادسة أن تفصح عما تفكر فيه، فقد تكاملت أضلاع مثلث الخطر المكون من التطرف اليميني السياسي الاحتلالي، مع التزمت الديني بتكريس يهودية الدولة على حساب مدنيتها، فيما الحرب بدأت فوراً على الضلع الثالث الخاص بالاستبداد، وكان عنوانه الحرب على القضاء ومؤسسات الدولة المدنية بما في ذلك المؤسسة الأمنية/العسكرية، وكما اجتمعت أحزاب النخبة ضد شخص نتنياهو، تجتمع اليوم قطاعات شعبية واسعة على رفض خطة احتواء القضاء، وقد ترافق مع تشكيل حكومة نتنياهو السادسة فوراً احتجاج أسبوعي يشارك فيه مئات الألوف بمن فيهم من ناخبي الليكود، ضد محاولة نتنياهو احتواء القضاء، للتملص من إدانة محتملة شخصية، وعلى طريق تنصيبه ديكتاتوراً شرقَ أوسطي، فهل ينجح في مسعاه بالتتويج كدكتاتور، أم ينجح الاحتجاج في إرساله للبيت، بعد أن فشل لابيد في فعل ذلك من قبل؟!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر كُتابها وليس عن وجهة نظر وكالة "سبق24" الإخبارية